الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة رسائل من آدم فتحي ومنصف الوهايبي وشكري مبخوت ومنصف المزغني الى الشاعر أولاد حمد

نشر في  29 أفريل 2015  (14:37)

يُعرف الشاعر بأنه ضمير الأمّة وقلبها النابض. وكلما كان عبقريا ملهما ارتفعت أسهم شعبيته بين الناس وافتتنوا به. ولأنّ الصغير أولاد أحمد شاعر متمرد ثائر يحب الوطن بجنون، لأنه عاشق الكادحين وصوت المقهورين ولسان حال المستضعفين صار له «حزب» ومريدون عاشقون. وبينما كان أولاد أحمد يكافح في الحياة بنظمه، هاجمه «غول أمّي» لم يقرأ له يوما ولو بيتا واحدا.. وبما أننا واثقون بأن شاعر تونس « الكبير» أولاد أحمد عنيد جبّار حتى أمام المرض فإنّ أملنا كبير في رؤيته قريبا يحثّ الخطى كعادته في شوارع العاصمة. في هذا السياق ارتأت أخبار الجمهورية أن تنشر قصيدا من مجموعته «القيادة الشعرية للثورة التونسية»، كما اتصلنا بنخبة من الشعراء والكتّاب وطلبنا منهم تحرير كلمات مساندة لابن تونس الخضراء فجادت قرائحهم بـ«دواوين» محبة ومساندة لزميلهم ورفيقهم في الكتابة والإبداع وكان الصوت واحدا:

«أنت عملاق يا شاعر، فانهض وانتصر على المرض.. هذا أمر! انهض!»

سلامتك يا صاحبي بقلم: آدم فتحي

صديقُنا سليم دولة هو الذي أتاني بخبَر مَرضك. همسَ لي متوجّعًا كأنّه يعتذر: «أولاد أحمد مريض». كنّا في معرض الكتاب. تصحّرَ المكان. غاب الزوّار. تلاشت السحب العابرة والتفاصيل الصغيرة. لم يبق إلاّ الجوهر: رحلة العمر. صحبة الألف ميل. رفقة سنوات الجمر. صداقة يتوجّع طرَفُها للآخر. عظام يصفّر بعضُها لبعض.

سلامتك يا صاحبي. أعرف أنّ معنويّاتك شاهقة وأنّك بخيرٍ على قدر ما تستطيع. أعرف أنّك كفيلٌ بكلّ ما تقدر عليه. كما أعرف أنّ المرض، ذاك الذئب الكامن في أجسادنا منذ البداية، لن يلبث أن يعترف بأنّه أخطأ حين اختارك عدوًّا. هو قادر على أبناء اللحم والدم أمّا أبناء الحبر واللغة فلا قِبَلَ لهُ بهم. يكفي أن يترجموه إلى أغنيةٍ كي ينتصروا عليه حين يتوهّم أنّه ينتصر عليهم.

ليس المرضُ بالأمر الطارئ أصلاً. ولو لم يكن المرضُ هو الأصل ما كانت عبارةُ «طريح الغرام» توأمًا لعبارة «طريح الفراش» في مُعظَمِ لُغات العالَم. بل لعلّ فكرة «المرض الأصليّ» تقترب بنا بمكرٍ من فكرة «الخطيئة الأصليّة» فإذا نحن نقيس إنسانيّتنا بمدى عُقوقِنَا الفكرَتَين وتمرُّدِنا عليهما، وإذا نحن نكفّر عن الأولى بما نتوهّم أنّه العافية كما نكفّر عن الثانية بما نتوهّم أنّه الحريّة.

سأل صديقُنا محمود درويش ذات يوم إن كان ممكنًا أن نشفى من حبّ تونس. لم يكن قصدُهُ طبعًا أنّ تونس مرضٌ يُرادُ الشفاء منه. أمّا نحن فنستطيع أن نقصد ذلك وأن نتحدّث عن مرضنا ببلادِنا وفيها. ما أن انفتح وعيُنا على آلامها وأحلامها حتى وجدنا تونس مريضةً بما يفصل بين موجودِها ومنشودها من جراحِ فاغرة وشروخ عميقة، فإذا نحن نمرض لها وبها، وإذا نحن مرضاها منذ البداية. قُدِّرَ على جيلنا أن لا يعرف لحظةَ عافيةٍ حقيقيّة حتى اليوم وأن لا يفرحَ فرحًا كاملاً حتى الساعة. يتآمرُ علينا الوطَنُ أحيانًا وكأنّه مرضٌ في المنفى. يتآمر علينا الفرحُ وكأنّه مرضٌ في الحزن. تتآمر علينا الإقامةُ وكأنّها مرضٌ في الغربة. يتآمَرُ علينا الشعرُ وكأنّه مرَضٌ في اللغة. تتآمر علينا اللغةُ وكأنّها مرضٌ في الصمت. حتى لكأنّ المرضَ مكانُ إقامتنا الوحيد الذي لا نغادره إلاّ لنعود إليه.

هكذا برَعْنَا في الاستعانة على «المرض الأصليّ» بأمراضٍ أخرى فرعيّة. ترقيع الممزّق. السعادة بالحدّ الأدنى. تخدير الأقاصي بمرْهَمٍ نسمّيه الاعتدال. الوهم بأنّ الكتابة حَلٌّ لما لا حلّ له من الترحال والعطشِ. الفرح البسيط بأنّنا مختلفون عن غيرنا. بأنّنا نمرض أقلّ ونموتُ أقلّ حين نخسر أرباحهم ونربح خسائرنا.

سلامتك يا صاحبي. اجتمعت علينا المحنتان: نفس تتعبُ في مرادها الأجسام وبلاد تشحبُ في سمائها الأحلام. فكيف لا نمرض؟ كيف لا يمرض من عاش ما عشناه؟ كيف لا ينقلب علينا هذا الجسد الذي تحمّلَنا وتحمّل منّا ما لا طاقةَ له به طيلة هذه العُقود؟ كيفَ لا يغدرُ بنا وكأنّه ينتقم منّا، وكأنّه يثأر لنفسه من كلّ ما حمّلناه من سفَر وسهَر وتيهٍ وقلقٍ وأحلامٍ مكسورة وأفراحٍ مُرجأة؟

كم أريد اليوم أن أصدّق ماريتي. تلك الكنديّة الأربعينيّة ذات العينين الزرقاوين التي خاتلت المرض بكلّ ما تملك من مكر، وجاءت من مونتريال إلى تونس، ذات صيف في مطلع التسعينات، حين كنّا أنا وأنت وأحمد الحاذق العرف، نلوذ بذلك الجحر العجيب في نهج سيدي البيدي، العالق بين باب البحر وباب عليوة.

قال لها الأطبّاء إنّها انتصرت في معركةٍ مُهِمّة لكنّ الحرب مستمرّة وقد تستعر في جسدها مرّةً أخرى، فطلبت إجازةً طويلة الأمد، وتركت عمَلَها وأُسرَتَها وبلادها وقارّتها وقصدت إفريقيا وانتقلت من مدينةٍ إلى أخرى حتى انتهى بها المطاف إلى تونس، لعلّ المرض يبحث عنها من جديد في مونتريال فلا يجدها.

هل تذكُرها يا صاحبي؟ هل تذكر جنونها الدافئ وضحكتَها المعدية؟ هل تذكر نهمَها إلى الحياة؟ هل تذكر نظرتَها الماكرة وهي تحدّثنا عن هربها من مرضها، مثل من يتحدّث عن مقلبٍ مرِحٍ دبّره لأحد أصدقائه اللدودين؟ لقد انتصرتْ يا صديقي. كم أريد أن أصدّقها اليوم أكثر من أيّ يوم مضى. كم أريد أن أصدّق أنّ المرض شخصٌ في مكان، وليس علينا إلاّ أن نغادر المكان فلا يجدُ ذاكَ الشخصُ إلينا سبيلاً. وليس علينا إلاّ أن نُضيّعه مثلما ضُيِّع عقلة الإصبع، فإذا عاد أدراجه متتبّعًا العلامات الذي زرعها فينا خفيةً عنّا لم يجدنا حتى في أجسادنا، ولم يجد أثرًا يدلّ علينا غير قصائد، لم تكن سوى صمتٍ نَشَرْنَاهُ على حَبْلِ الكلام.

سلامتك يا صاحبي. رجعتُ من عندك قبل قليلٍ مطمئنًّا عليك. أخذَنا الحديثُ إلى مشاريع وأحلامٍ كثيرة ولم ينتزع المرض من حديثنا إلاّ القليل، لأنّه لا يستحقّ أكثر من ذلك. لا أريد أن أراك وأنت على سرير المرض. لا أريد أن أراك إلاّ وأنت واقف كعادتك تكتب وتحلم. بل إنّك واقف الآن حتى وأنتَ طريح الفراش. فلتَبْقَ واقفًا كالعهد بك، ولتنتصر في معركتك هذه أيضًا، من أجلنا، من أجلك، من أجلي.

كلمات لأولاد حمد في مرض لا يحسن الكتابة بقلم: منصف الوهايبي

هل يعرف الكتابة إلاّ الذين كابدوها ودُفِعوا الى مضايقها؟ أليسوا هم الذين تعلّموا مرارة الصبر على الكلمة أو الجملة حتى تختمر، ليحوّلوها الى عجينة لدنة سوداء أو زرقاء، بحسب الحبر المفضّل لديهم. للكلمات سُبُل خاصّة وألوانٌ مختلفة، بل لها بيوت وطيئة أو تحت الأرض؛ وكأنّها تلوذ بها من وحشة السماء أو وحشيّتها. ثمّة كلمات همجيّة تمشي في نصّها الأصلي أعني في رحمها بشكل آلي.. وكلمات تصدر أصواتا رتيبة مثل مشية جندي في ثكنة مسيّجة.. وكلمات تطقطق مثل حوافر الدواب أو طقطقة عجلات الأخشاب على طرق الرومان، أو مثل عتيق الأسرّة، تلك التي كان يجلبها آباؤنا من أسواق الخردة؛ لتسقط عمدانها في الليل، ونحن في عزّ الحلم أو الكابوس.. والخردة كلمة فارسيّة تدلّ على ما صغر من الأمتعة وتفرّق.. والكلمات تخرد فيطول سكونها ويقلّ كلامها.. وبعضها لؤلؤ خريد لم يثقب.. وثمّة كلمات تنكمش كالأرانب أو هي طرائد؛ وعليك ان تكون صيّادا ماهرا حتّى تدفعها الى الخروج من جحرها أو وكرها.. ويا ويحك إذا أخطأت المرمى؛ فقد تتلاوى عليك كما تتلاوى الثعابين على بعضها البعض. وكلمات تتدحرج مثل كرةالبولينج.. وكلمات تزدرد كلمات، ثمّ لا تلفظ إلاّ نفسها..وكلمات لابدّ أن تضغط عليها حتى يطفر الحبر منها؛ ولكنها قد تتورّم قليلا أو كثيرا.. وتقضّي الليل كله، وأنت تبحث لها عن مرهم في صيدليّة ابن منظور لتطلي به جرحها.. وقد يكشّ ابن منظور في وجهك؛ لأنّك نغّصت عليه نومته الأبديّة. ثم تتذكّر أنّهم اقتلعوا لسانه بالملقط وقدّموه للكلاب؛ فهو منذ تلك اللحظة مصاب بالحُبسة مثل حكاّم العرب عاجز عن الكلام.. وها هو«لسانه» اليوم أشبه بشواهد القبور.

ثم تجلس الى مكتبك ثانية، وقد طويت «لسان العرب».. تقوّم جملة محدودبة.. وتشدّ قامة أخرى تكاد تنكفئ.. أو تخلع عن استعارة نظّارتها البلاغية السميكة.. أو تحرّر كناية من أسر المتنبي.. حتى إذا استوى لك النص.. ضحكت أو ابتسمت. ثم تندسّ في فراشك.. ولكنّك لا تكاد تغمض عينيك حتى تطلّ عليك الكلمات بعيون أوسع من الرعب في عيني طفل فلسطيني أو عراقي أو سوريّ أو يمني... الكلمات التي لا تستطيع أن تشير الى الأرحام التي أسقطتها. ***

ومع ذلك فهناك كلمات لها عطْر الضوء.. ولنا منها ذكرى لطخات الحبر على الأبواب.. في شهر جوان.. عندما تكون العطلة الصيفيّة قد هلّت شمسها.. وبدأ الأزرق يلمّ على مهل شمْل سطوح المنازل.. ونحن نتهيّأ لنركض حفاة تحت سقف من ريش النوارس.. ومن هذه الكلمات كلمات أولاد أحمد: الأب»محمّد الصغيّر» أو البنت الجميلة«كلمات».. لعلني الوحيد الذي يناديه باسمه لا بلقبه؛ فكلّما التقينا أو تلفن أحدنا للآخر؛ ناديته بـ«أهلا بالصغيّر»، فيقول لي بنبرة حبّ :» أنت الوحيد الذي يناديني باسمي، كما تناديني أمّي.» ليكُنْ.. أخي وحبيبي «الصعيّر».. هذا مرض قلت أنت بلغتك الشعريّة الساخرة «إنّه أمّيٌّ.. لا يعرف القراءة».. وأضيف أنا: «مرض لا يحسن الكتابة أيضا».. ولكنّك يجب أن تنتصر عليه.. لأنّنا لا نزال نحتاج إلى قلمك.. هذا.. لسان بصرنا التونسي. وهذه قصيدة كنت نشرتها أوّل ما نشرتها في كتابي الشعري الصادر ببيروت عام 2007 «كتاب العصا» .. وها أنا أهديها لك.. وقد سبق أن أهديتك بعض قصائدي في كتابي « ميتافيزيقا وردة الرمل».. سلاما..

إلى محمد الصغيّر

في ضباب من الضّوء حيث الهواء

يتلابس والظلّ،

قال الكتابة تلزمها كلمات مفاتيح، لكنّها

لم تدر قـطّ في قفْل قافية من قوافي امرئ القيس والمتنبّي

الكتابة لا تفتح الباب إلاّ لتغلقه،

ولذا كان لابدّ أن يتبقّى لنا في الأصابع،

من عضّة الباب، أبيض جرحٍ، وفي الكلمات، دم الكلمات الكتابة تحتاج منّا إلى كلماتٍ أصابعَ،

تَحْتـَـفِـرُ الأرضَ،

توقظ أعمى الحجارةِ،

حتّى إذا نهض البيت فوق رؤوس الأصابع،

قلنا: إذن كان لابدّ للبيت بيت القصيدْ من يد حرّةٍ،

كان لابدّ كي نتوحّد نحن وهذا النّشيدْ

الكتابة يلزمها ـ لتكون ـ لسانٌ

كحيّة آدم مزدوجٌ،

فتقول بنا ونقول بها

الكتابة مثلي ومثلك

تحمل أمواتها في ثنايا الكلامْ

والكلام لهم هؤلاء الذين ينامون في نومنا

حيث نحن ننامْ

في منازلنا

أو على مقعد في الحديقةِ،

أو في رخيص الفنادق،

مثلي ومثلك،

في حلمنا يحلمونْ

الكتابة ليست سوى رمية النّردِ،

حيث السّماءْ

تتزلّج في الأرضِ،

والصّوت يشرد من كلمات لنا ولهم،

تتدحرج مثل”البولينج»..

تصلّ صليل حصان أبي الطّيّب المتنبّي

وقـد حجبت شمس شيراز عنه منازله في الشّـآمْ

الكتابة ألواح سومر تطبخ في النّارِ،

حزّة أقلامهم وهي تحرث أصواتنا البائده

الكتابة آخر ما ينشد الجاهليّ الأخير

الكتابة آخر ما يتـنزّل في سورة المائده

في الوداع الأخيرْ

الكتابة مثل الفراشة وهي تحاكي لِحاء البتولةِ،

مثل الفراشة أيقونة بجناحينِ،

!لكنّها لا تطير

الكتابة مثلي ومثلك،

مرجأة أبدا

بين مدّ الحضور ومدّ الغيابْ

غيـر أنّ الكتاب الذي أنت تكتبه بأصابع مبتورةٍ،

ليس إلاّ كتابك بعد الأخـيـرْ لا مداد لـه

إنّما سِيرُ جِلد يلفّ على قـلم كالعصا،

وحروف تُـضـمّ إلى بعضها الـبعـض مثل الوعولْ

عـند منحدر الغاب،

إذ تتشمّمُ

رائحة المطر الإستوائيّ يقرع بلّوطه كالطّبولْ !

دُقّ في السِـير زُرْقَ مسامير لحمـك

كي يتماسك.. غيّرْ يديك

وخُـطـّ عليه سوانـح من فرحةٍ،

هي أقصر من رمية النّرد

في رقعة من ذهولْ

ثمّ سُـلّ المساميرَ

قلْ: هـل ترى غير نمْنمَـةٍ،

ونـقـاطٍ مبعثرة في البياض!؟

ـ إذن كيف نقـرؤُه؟

قال:هذا كتاب العصا

أو كتاب الرّمالْ

والقراءة تبدأ يا صاحبي دون أن تـنـتهي حين نطوي الكتابْ...

يا أخي الثاني كم أحبّك.. بقلم: المنصف المزغني

فكرت في أشياء كثيرة من بينها: أنا لا استطيع أن أتخيله مريضًا ، فهو معافى إلى الأبد . نعم، ثم إن السؤال صعب : ماذا أقول له ؟ وكلامنا كان دائماً قليلا ، ودون كلام أحيانا. نحن نعيش تونس نفسها ، وحين نفكر في الموضوع نفسه، نعلق بالتعليق نفسه، من الزاوية نفسها، لان أمّنا واحدة: السخرية . والإنسان لا يقرر أمّه من تكون : نعم ، أمّنا السخرية الابنة الشرعية للألم .

لم يكن أولاد احمد يشرح ما يقول ولم أكن اطلب شرحا، فغامضُهُ واضح عندي. وماذا أقول لك يا محمد؟ ليس بيننا أوامر، ولكن اقبلْ أمري هذه المرة: أنت قوىّ بالكلمات، وبـ«كلمات» و«زهور»، و«ناظم » أولاد احمد، وأنت أقوى بجمهور لا يكفّ عن التناسل الآن وغدا..

هذا الشعب أنجبته كلماتُك المنشورةُ بين الناس ، فليس من حقك في أن تفكر في غير ما نذرت له حياتك: الأمَل . فليس لنا ما نصدّر غير الأمَل في مواجهة الأَلَم. وماذا أقول لك: قد لا تعلم أني احبك، وقد لا اقدّرُ،أنا نفسي، مقدارَ خجلي، فاعلمنَّ إذن : يا أخي الثاني كم أحبّك.

عد لتذكّر الناس ببسائط الأشياء وواضح المعاني بقلم: شكري المبخوت

العزيز أولاد أحمد، أعرف أنّ التدرّب على معاشرة الألم مرهق ولكنك منتصر لا محالة على ذاك «المرض الأمّيّ» الذي تمكّن من الجسد النحيل. أعلم أنّك أنت، شاعرنا الجميل، من يرفع معنويّاتنا ولست في حاجة إلينا إلاّ على سبيل الأنس والألفة. فقد واجهت، مذ بدأت تعيد للعلامات مداليلها وللكتابة فتنتها، ضروبا من الأمّيّة وألوانا من الأمراض التي تصيب منّا الروح إصابات بالغة.

ماذا نقول لك تعاطفا ومواساة أو ودّا ومحبّة خاصة؟ فأنت عندي تصوغ منذ عقود متنك في نقد المسلّمات من موضع يقع وراء اللياقة البدنيّة ولياقة المدلول الراسخ المطمئنّ إلى غبائه لذلك توهّجت منك الروح فأضاءت، ببساطة بديعة ووضوح فاتن، ما عتّمه سلطات اللّغة المتيبّسة والمعاني الوفاقيّة وسياسة قهر الخيال وتدجين الأجساد.

كيف تطلب البلاد شفاءك، بيمينها ويسارها وما بينهما من يمين مستديم، وهي التي تعاني الأسقام والآلام؟ عليك أنت أن تطلب شفاءنا وتسعى إليه مواصلا إنتاج فائض معنى الحرّيّة، مطلق الحرّيّة الأخّاذة الآسرة. فالقوم، كما ترى، ينتظرون أن تمنحهم الحياة فائض زيفها المعمّم وأوهامها المغرية. قل لهم قولا حسنا تطابق فيه الدوالُّ المدلولات ويوافق فيه المستحيلُ الممكنَ ليكون الواقع على صورة النفس الصافية. لقد انتشر الثورجيّون الكاذبون في كلّ منعطف وعاد من فقدوا الحياء إلى عاداتهم القديمة. فعد إليهم بالنعال لتذكّر الناس ببسائط الأشياء وواضح المعاني. لهذا وغيره نطلب شفاءك بكلّ أنانيّة الباحثين عمّا يشدّهم إلى الحياة وسخاء المحبّين المخلصين.

نطلب شفاءك لأنّك صوت نادر في جوقة البهتان المتفشّي كذاك المرض الأمّيّ. نطلب شفاءك العاجل لأنّ نصّك ثروة وطنيّة ومدوّنة أساسيّة تقول بعض أحلامنا التي نتهجّاها متلعثمين أو ننساها لشدّة وطأة تفاصيل اليوميّ البائس على نفوسنا المتعبة. نطلب شفاءك لأنّنا نحبّك، نفسا ونصّا، حبّا خالصا.

 

منارة تليجاني